فصل: تفسير الآية رقم (41):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.من لطائف وفوائد المفسرين:

من لطائف القشيري في الآية:
قال عليه الرحمة:
قوله جلّ ذكره: {إِلاَّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِي اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا في الغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا}.
مِنْ عزيزِ تلك النصرة أنه لم يستأنِسْ بثانية الذي كان معه بل رد الصِّدِّيقَ إلى الله، ونهاه عن مساكنته إياه، فقالَ: «ما ظنُّك باثنين الله ثالثهما؟».
قال تعالى: {إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا}.
ويقال من تلك النصرة إبقاؤه إياه في كشوفاته في تلك الحالة، ولولا نصرتُه لتلاشى تحت سطواتِ كَشْفِه.
ويقال كان عليه السلام أمانَ أهل الأرض على الحقيقة، قال تعالى: {وَمَا كَانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِم} [الأنفال: 33]، وجعله- في الظاهر- في أمان العنكبوت حين نَسَجَ خَيْطَه على باب الغار فَخَلَّصَه من كيدهم.
ويقال لو دخل هذا الغار لا تشقَّ نسيج العنكبوت، فيا عجبًا كيف سَتَرَ قصةَ حبيبه- صلوات الله عليه وعلى آله وسلم؟!.
ويقال صحيحٌ ما قالوا: للبقاع دول، فما خَطَرَ ببالِ أحدٍ أنَّ تلك الغار تصير مأوى ذلك السيِّد- صلى الله عليه وسلم! ولكنه يختص بقسمته ما يشاء {يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ} [البقرة: 105].
ويقال ليست الغِيران كلها مأوى الحيَّاتِ، فمنها ما هو مأوى الأحباب. ويقال علقت قلوب قوم بالعرش فطلبوا الحق منه، وهو تعالى يقول: {إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا} فهو سبحانه- وإن تقدَّس عن كل مكان- ولكن في هذا الخطاب حياة لأسرار أرباب المواجيد، وأنشدوا:
يا طالبَ الله في العرشِ الرفيعِ به ** لا تطلب العرشَ إن المجد في الغار

وفي الآية دليل على تحقيق صحبة الصدِّيق رضي الله عنه حيث سمَّاه الله سبحانه صاحبَه، وعَدَّه ثانِيه، في الإيمان ثانية، وفي الغار ثانيه ثم في القبر ضجيعه، وفي الجنة يكون رفيقه.
قوله جلّ ذكره: {فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ}.
الكناية في الهاء من «عليه» تعود إلى الرسول عليه السلام، ويحتمل أن تكون عائدةٌ إلى الصديق رضي الله عنه، فإن حُمِلَتْ على الصديق تكون خصوصية له من بين المؤمنين على الانفراد، فقد قال عز وجلّ لجميع المؤمنين: {هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين} [الفتح: 4].
وقال للصدِّيق- على التخصيص- فأنزل الله سكينته عليه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله يتجلّى للناس عامة ويتجلَّى لأبي بكر خاصة».
وإنما كان حزنُ الصديقِ ذلك اليوم لأجل الرسول- صلى الله عليه وسلم إشفاقًا عليه.. لا لأجل نَفْسِه. ثم إنه عليه السلام نفى حزنه وسلاّه بأن قال: {لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا}، وحُزْنٌ لا يذهب لِمَعِيَّة الحقِّ لا يكون إلاَّ «لحقِّ الحق».
قوله جلّ ذكره: {وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللهِ هِي العُلْيَا وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}.
يريد به النبي صلى الله عليه وسلم. وتلك الجنودُ وفودُ زوائد اليقين على أسراره بتجلِّي الكشوفات.
{وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى} بإظهار حُجج دينه، وتمهيد سُبُل حقِّه ويقينه؛ فراياتُ الحقِّ إلى الأبدِ عالية، وتمويهات الباطل واهية، وحِزْبُ الحقِّ منصورون، ووفد الباطل مقهورون.
ويقال لما خلا الصديق بالرسول عليه السلام في الغار، وأشرقت على سِرِّه أنوار صحبة الرسول عليه السلام، ووقع عليه شعاعُ أنواره، واشتاق إلى الله تعالى لفَقْدِ قراره- أزال عنه لواعِجه بما أخبره مِنْ قُرْبه سبحانه فاستبدل بالقلق سكونًا، وبالشوق أُنسًا، وأنزل عليه من السكينة ما كاشفه به من شهود الهيبة.
ويقال كان الرسول صلى الله عليه وسلم ثاني اثنين في الظاهر بشبه ولكن كان مُسْتَهْلَكَ الشاهد في الواحِد بِسِرِّه. اهـ.

.تفسير الآية رقم (41):

قوله تعالى: {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (41)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما بلغت هذه المواعظ من القلوب الواعية مبالغًا هيأها به للقبول، أقبل عليها سبحانه بالأمر فقال: {انفروا خفافًا وثقالًا} والمراد بالخفة كل ما يكون سببًا لسهولة الجهاد والنشاط إليه، وبالثقل كل ما يحمل على الإبطاء عنه؛ وقال أبو حيان: والخفة والثقل هنا مستعار لمن يمكنه السفر بسهولة ومن يمكنه بصعوبة، وأما من لا يمكنه كالأعمى ونحوه فخارج عن هذا- انتهى.
قال البغوي: قال الزهري: خرج سعيد بن المسيب رحمه الله الغزو وقد ذهبت إحدى عينيه فقيل له: إنك عليل صاحب ضرر فقال: استنفر الله الخفيف والثقيل، فإن لم يمكني الحرب كثرت السواد وحفظت المتاع؛ وروى أبو يعلى الموصلي في مسنده بسند صحيح عن أنس أن أبا طلحة- رضى الله عنهما- قرأ سورة براءة فأتى على هذه الآية فقال: لا أرى ربي يستنفرني شابًا وشيخًا! جهزوني، فمات فلم يجدوا له جزيرة يدفنونه فيها إلا بعد سبعة أيام فما تغير، {وجاهدوا} أي أوقعوا جهدكم ليقع جهد الكفار.
ولما كانت هذه الآية في سياق المعاتبة لمن تثاقل إلى الأرض عن الجهاد عند الاستنفار في غزوة تبوك، وكان سبب التثاقل ما كان في ذلك ما كان في ذلك الوقت من العسرة في المال والشدة بالحر وما كان من طيب الظلال في أراضي الجنان وقت الأخذ في استواء الثمار- كما هو مشهور في السير؛ اقتضى المقام هنا تقديم المال والنفس بخلاف ما مضى فإن الكلام كان في المفاضلة بين الجهاد في سبيل الله وخدمة البيت ومن يحجه في هذه السورة التي صادف وقت نزولها بعد مواطن الجهاد وطول المفارقة للأموال، والأولاد وقدم المال لأن النظر إليه من وجهين: قلته، ومحبة الإقامة في الحدائق أيثارًا للتمتع بها وخوفًا من ضياعها مع أن بها قوام الأنفس، فصار النظر إليها هو الحامل على الشح بالأنفس فقال تعالى: {بأموالكم وأنفسكم} أي بهما معًا على ما أمكنكم أو بأحدهما {في سبيل الله} أي الملك الأعلى أي حتى لا يبقى منه مانع {ذلكم} أي الأمر العظيم {خير} أي في نفسه حاصل {لكم} أي خاص بكم، ويجوز أن يكون أفعل تفضيل بمعنى أن عبادة المجاهد بالجهاد خير من عبادة القاعد بغيره كائنًا ما كان، كما قال صلى الله عليه وسلم لمن سأله: هل يمكن بلوغ درجة المجاهد؟ فقال: هل تستطيع أن تقوم فلا تفتر وتصوم فلا تفطر؟ وختم الآية بقوله: {إن كنتم تعلمون} إشارة إلى أن هذا الأمر وإن كان عامًا فإنما ينتفع به ذوو الأذهان الصافية والمعالم الوافية، فإن العلم- ولا يعد علمًا إلا النافع- يحث على العمل وعلى إحسانه باخلاص النية وتصحيح المقاصد وتقوية العزم وغير ذلك وضده يورث ضده. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

{انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (41)}
اعلم أنه تعالى لما توعد من لا ينفر مع الرسول، وضرب له من الأمثال ما وصفنا، أتبعه بهذا الأمر الجزم فقال: {انفروا خِفَافًا وَثِقَالًا} والمراد انفروا سواء كنتم على الصفة التي يخف عليكم الجهاد أو على الصفة التي يثقل، وهذا الوصف يدخل تحته أقسام كثيرة والمفسرون ذكروها.
فالأول: {خِفَافًا} في النفور لنشاطكم له {وَثِقَالًا} عنه ولمشقته عليكم.
الثاني: {خِفَافًا} لقلة عيالكم {وَثِقَالًا} لكثرتها.
الثالث: {خِفَافًا} من السلاح {وَثِقَالًا} منه.
الرابع: ركبانًا ومشاة.
الخامس: شبانًا وشيوخًا.
السادس: مهازيل وسمانا.
السابع: صحاحًا ومراضًا والصحيح ما ذكرنا إذ الكل داخل فيه لأن الوصف المذكور وصف كلي، يدخل فيه كل هذه الجزئيات.
فإن قيل: أتقولون إن هذا الأمر يتناول جميع الناس حتى المرضى والعاجزين؟
قلنا: ظاهره يقتضي ذلك عن ابن أم مكتوم أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أعلي أن أنفر، قال: ما أنت إلا خفيف أو ثقيل فرجع إلى أهله ولبس سلاحه ووقف بين يديه، فنزل قوله تعالى: {لَّيْسَ عَلَى الأعمى حَرَجٌ} [الفتح: 17 النور: 61] وقال مجاهد: إن أبا أيوب شهد بدرًا مع الرسول صلى الله عليه وسلم، ولم يتخلف عن غزوات المسلمين، ويقول: قال الله: {انفروا خِفَافًا وَثِقَالًا} فلا أجدني إلا خفيفًا أو ثقيلًا.
وعن صفوان بن عمرو قال: كنت واليًا على حمص، فلقيت شيخًا قد سقط حاجباه، من أهل دمشق على راحلته يريد الغزو، قلت يا عم أنت معذور عند الله، فرفع حاجبيه وقال: يا ابن أخي استنفرنا الله خفافًا وثقالًا، ألا إن من أحبه ابتلاه.
وعن الزهري: خرج سعيد بن المسيب إلى الغزو وقد ذهبت إحدى عينيه فقيل له إنك عليل صاحب ضرر، فقال: استنفر الله الخفيف والثقيل، فإن عجزت عن الجهاد كثرت السواد وحفظت المتاع.
وقيل للمقداد بن الأسود وهو يريد الغزو: أنت معذور، فقال: أنزل الله علينا في سورة براءة {انفروا خِفَافًا وَثِقَالًا}.
واعلم أن القائلين بهذا القول الذي قررناه يقولون: هذه الآية صارت منسوخة بقوله تعالى: {لَّيْسَ عَلَى الأعمى حَرَجٌ} [الفتح: 17 النور: 61] وقال عطاء الخراساني: منسوخة بقوله: {وَمَا كَانَ المؤمنون لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً} [التوبة: 122].
ولقائل أن يقول: اتفقوا على أن هذه الآية نزلت في غزوة تبوك، واتفقوا على أنه عليه الصلاة والسلام خلف النساء وخلف من الرجال أقوامًا، وذلك يدل على أن هذا الوجوب ليس على الأعيان، لكنه من فروض الكفايات، فمن أمره الرسول بأن يخرج، لزمه ذلك خفافًا وثقالًا، ومن أمره بأن يبقى هناك، لزمه أن يبقى ويترك النفر.
وعلى هذا التقدير: فلا حاجة إلى التزام النسخ.
ثم قال تعالى: {وجاهدوا بأموالكم وَأَنفُسِكُمْ في سَبِيلِ الله} وفيه قولان:
القول الأول: أن هذا يدل على أن الجهاد إنما يجب على من له المال والنفس، فدل على أن من لم يكن له نفس سليمة صالحة للجهاد، ولا مال يتقوى به على تحصيل آلات الجهاد لا يجب عليه الجهاد.
والقول الثاني: أن الجهاد يجب بالنفس إذا انفرد وقوي عليه، وبالمال إذا ضعف عن الجهاد بنفسه، فيلزم على هذا القول أن من عجز أن ينيب عنه نفرًا بنفقة من عنده فيكون مجاهدًا بماله لما تعذر عليه بنفسه، وقد ذهب إلى هذا القول كثير من العلماء.
ثم قال تعالى: {ذلكم خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ}.
فإن قيل: كيف يصح أن يقال: الجهاد خير من القعود عنه، ولا خير في القعود عنه.
قلنا: الجواب عنه من وجهين:
الوجه الأول: أن لفظ {خَيْرٌ} يستعمل في معنيين: أحدهما: بمعنى هذا خير من ذاك.
والثاني: بمعنى أنه في نفسه خير كقوله: {إِنّى لِمَا أَنزَلْتَ إِلَي مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} [القصص: 24] وقوله: {وَإِنَّهُ لِحُبّ الخير لَشَدِيدٌ} [العاديات: 8] ويقال: الثريد خير من الله، أي هو خير في نفسه، وقد حصل من الله تعالى، فقوله: {ذلكم خَيْرٌ لَّكُمْ} المراد هذا الثاني، وعلى هذا الوجه يسقط السؤال.
الوجه الثاني: سلمنا أن المراد كونه خيرًا من غيره، إلا أن التقدير: أن ما يستفاد بالجهاد من نعيم الآخرة خير مما يستفيده القاعد عنه من الراحة والدعة والتنعم بهما، ولذلك قال تعالى: {إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} لأن ما يحصل من الخيرات في الآخرة على الجهاد لا يدرك إلا بالتأمل، ولا يعرفه إلا المؤمن الذي عرف بالدليل أن القول بالقيامة حق، وأن القول بالثواب والعقاب حق وصدق. اهـ.

.قال ابن العربي:

قَوْله تعالى: {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ}.
فِيهَا خَمْسُ مَسَائِلَ:

.المسألة الْأُولَى: فِي سَبَبِ نُزُولِهَا:

قَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ نُزُولِ ذَلِكَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ إلَى الرُّومِ، وَكَانَتْ غَزْوَةً بَعِيدَةً فِي وَقْتٍ شَدِيدٍ مِنْ حَمَّارَةِ الْقَيْظِ، وَعَدُوًّا كَثِيرًا، اُسْتُنْفِرَ لَهَا النَّاسُ كُلُّهُمْ عَلَى مَا نُبَيِّنُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ.